فصل: بَابُ الْجِزْيَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية (نسخة منقحة)



.بَابُ الْجِزْيَةِ:

(وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: جِزْيَةٌ تُوضَعُ بِالتَّرَاضِي وَالصُّلْحِ فَتَتَقَدَّرُ بِحَسَبِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ) كَمَا: «صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفٍ وَمِائَتَيْ حُلَّةٍ»، وَلِأَنَّ الْمُوجِبَ هُوَ التَّرَاضِي فَلَا يَجُوزُ التَّعَدِّي إلَى غَيْرِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ (وَجِزْيَةٌ يَبْتَدِئُ الْإِمَامُ وَضْعَهَا إذَا غَلَبَ الْإِمَامُ عَلَى الْكُفَّارِ وَأَقَرَّهُمْ عَلَى أَمْلَاكِهِمْ، فَيَضَعُ عَلَى الْغَنِيِّ الظَّاهِرِ الْغِنَى فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا يَأْخُذُ مِنْهُمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى وَسَطِ الْحَالِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا فِي كُلِّ شَهْرٍ دِرْهَمَيْنِ، وَعَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا فِي كُلِّ شَهْرٍ دِرْهَمًا) وَهَذَا عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَضَعُ عَلَى كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ مَا يَعْدِلُ الدِّينَارَ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ وَحَالِمَةٍ دِينَارًا أَوْ عِدْلَهُ مَعَافِرَ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ» وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْلِ حَتَّى لَا تَجِبَ عَلَى مَنْ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ بِسَبَبِ الْكُفْرِ كَالذَّرَارِيِّ وَالنِّسْوَانِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَنْتَظِمُ الْفَقِيرَ وَالْغَنِيَّ.
وَمَذْهَبُنَا مَنْقُولٌ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَلِأَنَّهُ وَجَبَ نُصْرَةً لِلْمُقَاتِلَةِ فَتَجِبُ عَلَى التَّفَاوُتِ بِمَنْزِلَةِ خَرَاجِ الْأَرْضِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ وَجَبَ بَدَلًا عَنْ النُّصْرَةِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ وَذَلِكَ يَتَفَاوَتُ بِكَثْرَةِ الْوَفْرِ وَقِلَّتِهِ فَكَذَا مَا هُوَ بَدَلُهُ، وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ صُلْحًا، وَلِهَذَا أَمَرَهُ بِالْأَخْذِ مِنْ الْحَالِمَةِ وَإِنْ كَانَتْ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا الْجِزْيَةُ.
الشرح:
بَابُ الْجِزْيَةِ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ بَنِي نَجْرَانَ عَلَى أَلْفٍ وَمِائَتَيْ حُلَّةٍ».
قُلْت: أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّدِّيَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ، النِّصْفُ فِي صَفَرٍ، وَالْبَقِيَّةُ فِي رَجَبٍ، يُؤَدُّونَهَا إلَى الْمُسْلِمِينَ، وَعَارِيَّةِ ثَلَاثِينَ دِرْعًا، وَثَلَاثِينَ فَرَسًا، وَثَلَاثِينَ بَعِيرًا، وَثَلَاثِينَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ السِّلَاحِ، يَغْزُونَ بِهَا، وَالْمُسْلِمُونَ ضَامِنُونَ لَهَا حَتَّى يَرُدُّوهَا عَلَيْهِمْ إنْ كَانَ بِالْيَمَنِ، كَيْدٌ، أَوْ غَدْرَةٌ، عَلَى أَنْ لَا تُهْدَمَ لَهُمْ بِيعَةٌ، وَلَا يُخْرَجَ لَهُمْ قُسٌّ، وَلَا يُفْتَنُوا عَنْ دِينِهِمْ، مَا لَمْ يُحْدِثُوا حَدَثًا، أَوْ يَأْكُلُوا الرِّبَا»، انْتَهَى.
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: فِي سَمَاعِ السُّدِّيَّ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَظَرٌ، وَإِنَّمَا قِيلَ: إنَّهُ رَآهُ، وَرَأَى ابْنَ عُمَرَ، وَسَمِعَ مِنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، انْتَهَى.
الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمُعَاذٍ: «خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ، وَحَالِمَةٍ دِينَارًا أَوْ عِدْلَهُ مَعَافِرَ».
قُلْت: أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي الزَّكَاةِ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ مُعَاذٍ، قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْيَمَنِ، وَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ الْبَقَرِ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةً، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً، وَمِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عِدْلَهُ مَعَافِرَ»، انْتَهَى.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا، قَالَ: وَهُوَ أَصَحُّ، انْتَهَى.
وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ فِي النَّوْعِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ، مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، انْتَهَى.
وَيُرَاجَعَانِ، فَإِنَّ ابْنَ مَاجَهْ رَوَاهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ قِصَّةَ الْحَالِمِ، وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَطْرَافِ عَزَوْهُ إلَيْهِ أَيْضًا، لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَعْتَبِرُونَ أَصْلَ الْحَدِيثِ، وَأَنْصَفَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي الْمُنْتَقَى إذْ قَالَ بَعْدَ أَنْ عَزَاهُ لِأَصْحَابِ السُّنَنِ: وَلَيْسَ لِابْنِ مَاجَهْ ذِكْرُ الْحَالِمِ، وَوَهَمَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي الْإِلْمَامِ فَعَزَاهُ لِأَصْحَابِ السُّنَنِ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ، وَأَقْوَى مِنْهُ فِي الْوَهْمِ مَا فَعَلَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعَصْرِ فِي كِتَابٍ وَضَعَهُ عَلَى التَّنْبِيهِ لِأَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، فَذَكَرَ فِي بَابِ الْجِزْيَةِ عَنْ مُعَاذٍ: «قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا، أَوْ عِدْلَهُ مَعَافِرَ»، ثُمَّ قَالَ: أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ، وَلَيْسَ هَذَا عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَفْظَةُ الْحَالِمَةِ: رُوِيَتْ فِيهِ أَيْضًا مُرْسَلًا وَمُسْنَدًا، فَالْمُسْنَدُ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةً، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً، وَمِنْ كُلِّ حَالِمٍ وَحَالِمَةٍ دِينَارًا، أَوْ عِدْلَهُ مَعَافِرَ»، انْتَهَى.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ ثَلَاثِ طُرُقٍ دَائِرَةٍ عَلَى الْأَعْمَشِ بِهِ، وَأَمَّا الْمُرْسَلُ فَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إلَى الْيَمَنِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ وَحَالِمَةٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ دِينَارًا أَوْ قِيمَتَهُ مَعَافِرِيَّ»، قَالَ: وَكَانَ مَعْمَرٌ يَقُولُ: هَذَا غَلَطٌ، قَوْلُهُ: حَالِمَةٍ لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ شَيْءٌ، انْتَهَى.
حَدِيثٌ آخَرُ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ الْحَكَمِ، قَالَ: «كَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى مُعَاذٍ بِالْيَمَنِ: عَلَى كُلِّ حَالِمٍ وَحَالِمَةٍ دِينَارٌ أَوْ قِيمَتُهُ»، انْتَهَى.
حَدِيثٌ آخَرُ: بِمَعْنَاهُ، رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ الزُّبَيْرِ قَالَ: «كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ أَنَّهُ مَنْ كَانَ عَلَى يَهُودِيَّةٍ أَوْ نَصْرَانِيَّةٍ، فَإِنَّهُ لَا يُفْتَنُ عَنْهَا، وَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ عَلَى كُلِّ حَالِمٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، دِينَارٌ وَافٍ، أَوْ قِيمَتُهُ»، انْتَهَى.
حَدِيثٌ آخَرُ: بِمَعْنَاهُ، رَوَاهُ ابْنُ زَنْجُوَيْهِ النَّسَائِيّ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ ثَنَا عَوْفٌ عَنْ الْحَسَنِ، قَالَ: «كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ: مَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ فَلَهُ مَا لِلْمُسْلِمِ، وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِ، وَمَنْ أَبَى فَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ، عَلَى كُلِّ حَالِمٍ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، دِينَارٌ وَافٍ أَوْ قِيمَتُهُ مِنْ الْمَعَافِرِ، فِي كُلِّ عَامٍ»، انْتَهَى.
حَدِيثٌ آخَرُ بِمَعْنَاهُ: رَوَاهُ ابْنُ زَنْجُوَيْهِ أَيْضًا حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ حَدَّثَنِي الْمُرَجَّى بْنُ رَجَاءٍ ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَفْصٍ عَنْ أَبِي إيَاسٍ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، قَالَ: «كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى مَجُوسِ هَجَرَ، أَمَّا بَعْدُ: مَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَلَهُ مِثْلُ مَا لَنَا، وَعَلَيْهِ مِثْلُ مَا عَلَيْنَا، وَمَنْ أَبَى فَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ عَلَى كُلِّ رَأْسٍ دِينَارٌ، عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَمَنْ أَبَى فَلْيَأْذَنْ بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ»، انْتَهَى.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فِيمَا نَرَى مَنْسُوخٌ، إذْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَوِلْدَانُهُمْ يُقْتَلُونَ مَعَ رِجَالِهِمْ، وَالْمَحْفُوظُ مِنْ ذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي لَا ذِكْرَ لِلْحَالِمَةِ فِيهِ، لِأَنَّهُ الْأَمْرُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَبِهِ كَتَبَ عُمَرُ إلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ الْحَالِمَةِ مَحْفُوظًا فَوَجْهُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ، كَمَا رَوَى الصَّعْبُ بْنُ جَثَّامَةَ: «أَنَّ خَيْلًا أَصَابَتْ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ»، ثُمَّ جَاءَ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ الذُّرِّيَّةِ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ، انْتَهَى.
قَالَ ابْنُ زَنْجُوَيْهِ: وَيُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ مَا أَخْبَرَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ، قَالَ: «سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ نَقْتُلُهُمْ مَعَهُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَإِنَّهُمْ مِنْهُمْ، ثُمَّ نَهَى عَنْ قَتْلِهِمْ يَوْمَ خَيْبَرَ»، انْتَهَى.
قَوْلُهُ: وَمَذْهَبُنَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ.
قُلْت: أَمَّا الرِّوَايَةُ عَنْ عُمَرَ فَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ فِي الْإِمَارَةِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ أَبِي عَوْنٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ، قَالَ: وَضَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي الْجِزْيَةِ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْفَقِيرِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، انْتَهَى.
وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ زَنْجُوَيْهِ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ ثَنَا مِنْدَلٌ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ أَبِي عَوْنٍ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ عُمَرَ وَضَعَ، إلَى آخِرِهِ.
طَرِيقٌ آخَرُ: رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ فِي تَرْجَمَةِ عُمَرَ أَخْبَرَنَا عَارِمُ بْنُ الْفَضْلِ ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ أَنَّ عُمَرَ وَضَعَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِيمَا فُتِحَ مِنْ الْبِلَادِ، فَوَضَعَ عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْوَسَطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْفَقِيرِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ.
طَرِيقٌ آخَرُ: رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ بَعَثَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ، فَوَضَعَ عَلَيْهِمْ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَأَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، وَاثْنَيْ عَشَرَ، انْتَهَى.
وَأَمَّا الرِّوَايَةُ عَنْ عُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ.
قَالَ: (وَتُوضَعُ الْجِزْيَةُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} الْآيَةَ، وَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْجِزْيَةَ عَلَى الْمَجُوسِ.
الشرح:
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ وَضَعَ الْجِزْيَةَ عَلَى الْمَجُوسِ».
قُلْت: فِيهِ أَحَادِيثُ: مِنْهَا حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ مُجَالِدٍ، وَهُوَ ابْنُ عَبْدَةَ الْمَكِّيُّ، قَالَ: «أَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ: فَرِّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِي مَحْرَمٍ مِنْ الْمَجُوسِ، وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ الْمَجُوسِ حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ»، انْتَهَى.
حَدِيثٌ آخَرُ: رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ الْبَحْرَيْنِ، وَأَنَّ عُمَرَ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ فَارِسَ، وَأَنَّ عُثْمَانَ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ الْبَرْبَرِ»، انْتَهَى.
وَعَنْ مَالِكٍ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي مُوَطَّئِهِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ بِسَنَدِهِ وَمَتْنِهِ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي كَبْشَةَ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَهُ.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَمْ يَصِلْ إسْنَادَهُ غَيْرُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي كَبْشَةَ الْبَصْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ عَنْ مَالِكٍ، وَرَوَاهُ النَّاسُ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا، لَيْسَ فِيهِ السَّائِبُ، وَهُوَ الْمَحْفُوظُ، انْتَهَى.
حَدِيثٌ آخَرُ: رَوَى الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَلِيٍّ الْحَنَفِيِّ ثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ: «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ذَكَرَ الْمَجُوسَ، فَقَالَ: مَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ فِي أَمْرِهِمْ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَشْهَدُ، لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ»، انْتَهَى.
قَالَ الْبَزَّارُ: هَذَا حَدِيثٌ قَدْ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ، لَمْ يَقُولُوا: عَنْ جَدِّهِ، وَجَدُّهُ هُوَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ فِيهِ: عَنْ جَدِّهِ إلَّا أَبُو عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ عَنْ مَالِكٍ. انْتَهَى.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَمْ يَقُلْ فِيهِ: عَنْ جَدِّهِ مِمَّنْ رَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ غَيْرُ أَبِي عَلِيٍّ الْحَنَفِيِّ، وَكَانَ ثِقَةً، وَهُوَ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ، انْتَهَى.
قُلْت: هَكَذَا رَوَاهُ فِي الْمُوَطَّإِ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ، فَذَكَرَهُ.
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ عَنْ جَعْفَرٍ بِهِ مُرْسَلًا، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ جَعْفَرٍ بِهِ، وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ عَنْ جَعْفَرٍ بِهِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْقَطِعٌ، فَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ لَمْ يَلْقَ عُمَرَ، وَلَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ، وَكَانَ ثِقَةً، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ، فَقَالَ فِيهِ: عَنْ جَدِّهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ لَمْ يَلْقَ عُمَرَ، وَلَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ يَتَّصِلُ مِنْ وُجُوهٍ حِسَانٍ، انْتَهَى.
قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: وَقَدْ رُوِيَ مَعْنَى هَذَا مِنْ وَجْهٍ مُتَّصِلٍ، إلَّا أَنَّ فِي إسْنَادِهِ مَنْ يُجْهَلُ حَالُهُ، قَالَ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَجَّاجِ الشَّامِيُّ ثَنَا أَبُو رَجَاءٍ وَكَانَ جَارًا لِحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، ثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: «كُنْت عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: مَنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْمَجُوسِ؟ فَوَثَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: إنَّمَا الْمَجُوسُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَاحْمِلُوهُمْ عَلَى مَا تَحْمِلُونَ عَلَيْهِ أَهْلَ الْكِتَابِ»، انْتَهَى.
حَدِيثٌ آخَرُ: رَوَى الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ عَنْ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ، قَالَ: «قَالَ فَرْوَةُ بْنُ نَوْفَلٍ: عَلَامَ تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ الْمَجُوسِ، وَلَيْسُوا بِأَهْلِ كِتَابٍ؟ فَقَامَ إلَيْهِ الْمُسْتَوْرِدُ، فَأَخَذَ بِلَبَّتِهِ، وَقَالَ: يَا عَدُوَّ اللَّهِ تَطْعَنُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يَعْنِي عَلِيًّا وَقَدْ أَخَذُوا مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ، فَذَهَبَ بِهِ إلَى الْقَصْرِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ عَلِيٌّ، وَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْمَجُوسِ، كَانَ لَهُمْ عِلْمٌ يَعْلَمُونَهُ، وَكِتَابٌ يَدْرُسُونَهُ، وَأَنَّ مَلِكَهُمْ سَكِرَ، فَوَقَعَ عَلَى ابْنَتِهِ، أَوْ أُمِّهِ، فَاطَّلَعَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ، فَلَمَّا صَحَا أَرَادُوا أَنْ يُقِيمُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، فَامْتَنَعَ مِنْهُمْ فَدَعَا أَهْلَ مَمْلَكَتِهِ، فَقَالَ: تَعْلَمُونَ دِينًا خَيْرًا مِنْ دِينِ آدَمَ، وَقَدْ كَانَ يَنْكِحُ بَنِيهِ مِنْ بَنَاتِهِ؟ فَأَنَا عَلَى دِينِ آدَمَ، وَمَا يَرْغَبُ بِكُمْ عَنْ دِينِهِ؟ فَبَايَعُوهُ، وَقَاتَلُوا الَّذِينَ خَالَفُوهُمْ حَتَّى قَتَلُوهُمْ، فَأَصْبَحُوا، وَقَدْ أَسْرِيَ عَلَى كِتَابِهِمْ، فَرُفِعَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَذَهَبَ الْعِلْمُ الَّذِي فِي صُدُورِهِمْ، وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَقَدْ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ»، انْتَهَى.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ: وَسَعِيدُ بْنُ الْمَرْزُبَانِ مَجْرُوحٌ، قَالَ يَحْيَى الْقَطَّانُ: لَا أَسْتَحِلُّ أَرْوِي عَنْهُ، وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلَا يُكْتَبُ حَدِيثُهُ، وَقَالَ الْفَلَّاسُ: مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ: كَانَ ثِقَةً، وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: هُوَ مُدَلِّسٌ، انْتَهَى.
وَمِنْ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَقَالَ: أَخْطَأَ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي قَوْلِهِ: نَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ، وَإِنَّمَا هُوَ عِيسَى بْنُ عَاصِمٍ، هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ فُضَيْلٍ، وَالْفَضْلُ بْنُ مُوسَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ عَنْ عِيسَى بْنِ عَاصِمٍ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ: كُنْت أَتَوَهَّمُ أَنَّ الْخَطَأَ مِنْ الشَّافِعِيِّ، فَوَجَدْتُ غَيْرَهُ تَابَعَهُ، فَعَلِمْتُ أَنَّ الْخَطَأَ مِنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ ثُمَّ أَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي دَاوُد، وَأَبِي زُرْعَةَ أَنَّهُمَا قَالَا: مَا عَلِمْنَا لِلشَّافِعِيِّ حَدِيثًا أَخْطَأَ فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: (وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَجَمِ) وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
هُوَ يَقُولُ: إنَّ الْقِتَالَ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ} إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا جَوَازَ تَرْكِهِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ، وَفِي حَقِّ الْمَجُوسِ بِالْخَبَرِ فَبَقِيَ مَنْ وَرَاءَهُمْ عَلَى الْأَصْلِ.
وَلَنَا: أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ فَيَجُوزُ ضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشْتَمِلُ عَلَى سَلْبِ النَّفْسِ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ يَكْتَسِبُ وَيُؤَدِّي إلَى الْمُسْلِمِينَ وَنَفَقَتُهُ فِي كَسْبِهِ (وَإِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَصِبْيَانُهُمْ فَيْءٌ) لِجَوَازِ اسْتِرْقَاقِهِمْ (وَلَا تُوضَعُ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ وَلَا الْمُرْتَدِّينَ) لِأَنَّ كُفْرَهُمَا قَدْ تَغَلَّظَ، أَمَّا مُشْرِكُو الْعَرَبِ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَشَأَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ فَالْمُعْجِزَةُ فِي حَقِّهِمْ أَظْهَرُ، وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَلِأَنَّهُ كَفَرَ بِرَبِّهِ بَعْدَمَا هُدِيَ لِلْإِسْلَامِ وَوَقَفَ عَلَى مَحَاسِنِهِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ زِيَادَةً فِي الْعُقُوبَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُسْتَرَقُّ مُشْرِكُو الْعَرَبِ، وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا.
(وَإِذَا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَنِسَاؤُهُمْ وَصِبْيَانُهُمْ فَيْءٌ) لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَرَقَّ نِسْوَانَ بَنِي حَنِيفَةَ وَصِبْيَانَهُمْ لَمَّا ارْتَدُّوا وَقَسَّمَهُمْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ (وَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ مِنْ رِجَالِهِمْ قُتِلَ) لِمَا ذَكَرْنَا.
الشرح:
قَوْله: رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَرَقَّ نِسْوَانَ بَنِي حَنِيفَةَ وَصِبْيَانَهُمْ، لَمَّا ارْتَدُّوا، وَقَسَّمَهُمْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ.
قُلْت: رَوَى الْوَاقِدِيُّ فِي كِتَابِ الرِّدَّةِ لَهُ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَنَسٍ الطَّفْرِيُّ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، فَذَكَرَ وَقْعَةَ الْيَمَامَةِ، وَهِيَ قِصَّةُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، وَأَصْحَابِهِ بَنِي حَنِيفَةَ بِطُولِهَا، وَفِيهَا: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرْسَلَ إلَيْهِمْ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَقَتَلَهُمْ، وَقَتَلَ مُسَيْلِمَةَ، وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ، فَتَحَصَّنُوا فِي الْحُصُونِ، وَقُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ أَبُو دُجَانَةَ الْأَنْصَارِيُّ، وَجُرِحَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَكَانَتْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، إلَى أَنْ قَالَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، قَالَ: ثُمَّ إنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ صَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ الصَّفْرَاءَ، وَالْبَيْضَاءَ، وَالْكُرَاعَ، وَالسِّلَاحَ، وَنِصْفَ السَّبْيِ، ثُمَّ دَخَلَ حُصُونَهُمْ صُلْحًا، فَأَخْرَجَ السِّلَاحَ، وَالْكُرَاعَ، وَالْأَمْوَالَ، وَالسَّبْيَ، فَجَمَعَ السِّلَاحَ عَلَى حِدَةٍ، وَالْكُرَاعَ عَلَى حِدَةٍ، وَالدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ عَلَى حِدَةٍ، ثُمَّ قَسَمَ السَّبْيَ قِسْمَيْنِ، وَأَقْرَعَ عَلَى الْقِسْمَيْنِ، فَخَرَجَ سَهْمُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَفِيهِ مَكْتُوبٌ: لِلَّهِ، ثُمَّ جَزَّأَ الَّذِي صَارَ لَهُ مِنْ السَّبْيِ عَلَى خَمْسَةِ أَجْزَاءٍ، وَكَتَبَ عَلَى كُلِّ سَهْمٍ مِنْهَا: لِلَّهِ، وَجَزَّأَ الْكُرَاعَ هَكَذَا، وَوَزَنَ الْفِضَّةَ وَالذَّهَبَ، فَعَزَلَ الْخُمُسَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَقَسَّمَ عَلَى النَّاسِ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسٍ، وَأَسْهَمَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، وَلِصَاحِبِهِ سَهْمًا، وَعَزَلَ الْخُمُسَ حَتَّى قَدِمَ بِهِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: وَحَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ رُبَيْحِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: اسْتَعْمَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى الْخُمُسِ أَبَا نَائِلَةَ، فَفَرَّقَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ فِي مَوَاضِعِ الْخُمُسِ مَا فَرَّقَ، قَالَ: وَحَدَّثَنِي أَبُو الزِّنَادِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، قَالَتْ: قَدْ رَأَيْت أُمَّ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَكَانَتْ مِنْ سَبْيِ بَنِي حَنِيفَةَ فَلِذَلِكَ سَمَّتْهُ الْحَنَفِيَّةَ، وَسُمِّيَ ابْنُهَا الْمَذْكُورُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَتْ أُمُّ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مِنْ ذَلِكَ السَّبْيِ، انْتَهَى.
أَثَرٌ آخَرُ لِلْخَصْمِ: رَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ أَيْضًا فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ، فَذَكَرَ قِصَّةَ إسْلَامِ أَهْلِ حَضْرَمَوْتَ، وَيُسَمُّونَ أَهْلَ كِنْدَةَ وَأَنَّهُ وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ رَجُلًا أَحَدُهُمْ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ، وَأَنَّهُمْ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ زِيَادَ بْنَ لَبِيدٍ الْبَيَاضِيُّ، وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا فِي فَرَائِضِ الصَّدَقَاتِ، وَصَارَ مَعَهُمْ عَامِلًا عَلَى حَضْرَمَوْتَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَلِيَ أَبُو بَكْرٍ أَرْسَلَ إلَى زِيَادٍ بِكِتَابٍ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، وَيُوصِيهِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَيَسْأَلُهُمْ أَنْ يُبَايِعُوهُ، فَقَرَأَ زِيَادٌ عَلَيْهِمْ الْكِتَابَ، فَنَكَصُوا عَنْ الْبَيْعَةِ، وَارْتَدُّوا، وَمِمَّنْ نَكَصَ عَنْ الْبَيْعَةِ الْأَشْعَثُ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَرْتَدَّ، فَصَاحَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ بِأَصْحَابِهِ الْمُسْلِمِينَ، فَاجْتَمَعُوا إلَيْهِ، وَوَقَعَ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ شَدِيدٌ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، قَالَ: وَحَدَّثَنِي جَرِيرُ بْنُ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ صَفْوَانَ عَنْ ابْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ أَبِيهِ أَبِي هِنْدٍ، قَالَ: «بَرَزَ يَوْمئِذٍ مِنْهُمْ رَجُلٌ فَبَرَزْتُ إلَيْهِ، وَكَانَ شُجَاعًا، قَالَ: فَتَنَاوَلْنَا بِالرُّمْحَيْنِ مُعْظَمَ النَّهَارِ، فَلَمْ يَظْفَرْ أَحَدُنَا بِصَاحِبِهِ، ثُمَّ صِرْنَا إلَى السَّيْفَيْنِ بَقِيَّةَ النَّهَارِ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدُنَا عَلَى الْآخَرِ، وَنَحْنُ فَارِسَانِ، فَلَمَّا أَمْسَوْا تَفَرَّقُوا، وَتَوَجَّهَ زِيَادٌ إلَى بَيْتِهِ، بَعْدَ أَنْ بَعَثَ عُيُونًا فِي طَلَبِ غُرَّتِهِمْ، فَجَاءَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، فَأَخْبَرَهُ بِغُرَّةٍ مِنْهُمْ، فَسَارَ إلَيْهِمْ لَيْلًا فِي مِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَإِذَا هُمْ هَدَءُوا وَنَامُوا، فَأَغَارَ عَلَيْهِمْ، فَقَتَلَهُمْ، وَذَبَحَ مُلُوكَهُمْ وَأَشْرَافَهُمْ، وَبَعَثَ إلَى أَبِي بَكْرٍ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إلَى الْمُهَاجِرِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ، وَكَانَ عَامِلًا عَلَى صَنْعَاءَ، اسْتَعْمَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا، أَنْ يَسِيرَ إلَى زِيَادٍ بِمَنْ حَضَرَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُ عَلَى زِيَادٍ اشْتَدَّ أَمْرُهُمَا، وَحَاصَرَا النُّجَيْرَ أَيَّامًا حِصَارًا شَدِيدًا، فَلَمَّا جَهَدَهُمْ الْحِصَارُ، قَالَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ: وَاَللَّهِ إنَّ الْمَوْتَ بِالسَّيْفِ لَأَهْوَنُ مِنْ الْمَوْتِ بِالْجُوعِ، فَدَعُونِي أَنْزِلُ إلَى هَؤُلَاءِ، فَآخُذُ لِي وَلَكُمْ الْأَمَانَ مِنْهُمْ، فَقَالُوا لَهُ: افْعَلْ، وَأَرْسَلَ الْأَشْعَثُ إلَى زِيَادٍ يَسْأَلُهُ الْأَمَانَ، وَأَجَابَهُ، فَنَزَلَ إلَيْهِ، فَأَرَادَ زِيَادٌ قَتْلَهُ، فَقَالَ لَهُ الْأَشْعَثُ: لَا تَقْتُلْنِي، وَابْعَثْ لِي إلَى أَبِي بَكْرٍ، يَرَى فِي رَأْيَهُ، فَإِنَّهُ يَكْرَهُ قَتْلَ مِثْلِي، وَأَنَا أَفْتَحُ لَك النُّجَيْرَ، فَآمَنَهُ زِيَادٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَهْلِهِ، وَمَالِهِ، وَفَتَحَ لَهُ الْأَشْعَثُ النُّجَيْرَ، وَدَخَلَ زِيَادٌ إلَى النُّجَيْرِ، فَأَخْرَجَ مِنْ مُقَاتِلَتِهِمْ خَلْقًا كَثِيرًا، فَعَمَدَ إلَى أَشْرَافِهِمْ، وَكَانُوا سَبْعَمِائَةٍ رَجُلٍ، فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَتَرَكَ جُثَثَهُمْ لِلسِّبَاعِ، لَمْ يُوَارِ مِنْهَا شَيْئًا، وَسَبَى مِنْ مُقَاتِلِيهِمْ ثَمَانِينَ رَجُلًا، وَأَخَذَ الذُّرِّيَّةَ وَالنِّسَاءَ، فَعَزَلَهُمْ عَلَى حِدَةٍ، وَبَعَثَ زِيَادٌ بِالْجَمِيعِ إلَى أَبِي بَكْرٍ، وَأَرْسَلَ مَعَهُمْ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ فِي وِثَاقٍ مِنْ حَدِيدٍ، فَلَمَّا دَخَلَ الْأَشْعَثُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: أَنْتَ الَّذِي فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا، وَفَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ يُعَدِّدُ لَهُ ذُنُوبَهُ، فَقَالَ لَهُ الْأَشْعَثُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، دَعْ عَنْك مَا مَضَى، وَاسْتَقْبِلْ الْأُمُورَ إذَا أَقْبَلْتَ، فَوَاَللَّهِ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ مَا كَفَرْتُ بَعْدَ إسْلَامِي، وَلَكِنْ شَحَحْتُ بِمَالِي، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: أَلَسْتَ الَّذِي تَقُولُ كَذَا وَكَذَا، وَتَقُولُ كَذَا وَكَذَا؟ فَقَالَ الْأَشْعَثُ: نَعَمْ، كُلُّ ذَلِكَ كَانَ، وَلَكِنْ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ قَدْ تُبْت مِمَّا صَنَعْتُ، وَرَجَعْتُ إلَى مَا خَرَجْت مِنْهُ، فَأَطْلِقْ أَسْرِي، وَاسْتَبْقِنِي لِحَرْبِك، وَزَوِّجْنِي أُخْتَك، فَأَطْلَقَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَقَبِلَ تَوْبَتَهُ، وَزَوَّجَهُ أُخْتَهُ أُمَّ فَرْوَةَ، بِنْتَ أَبِي قُحَافَةَ، قَالَ: وَقَسَّمَ أَبُو بَكْرٍ سَبْيَ النُّجَيْرِ خَمْسَةَ أَخْمَاسٍ، فَفَرَّقَ الْخُمُسَ فِي النَّاسِ، وَتَرَكَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسٍ، قَالَ: وَقَدِمَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ النُّجَيْرِ يَطْلُبُونَ أَنْ يُفَادُوا سَبْيَهُمْ، وَقَالُوا: وَاَللَّهِ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ مَا رَجَعْنَا عَنْ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنْ شَحَحْنَا بِأَمْوَالِنَا، وَقَدْ رَجَعَ مَنْ وَرَاءَنَا إلَى مَا خَرَجُوا مِنْهُ، وَبَايَعُوا لَك رَاضِينَ، فَقَالَ: بَعْدَ مَاذَا؟ بَعْدَ أَنْ وَطِئْتُكُمْ بِالسَّيْفِ، قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ جُنْدُبٍ، قَالَ: لَمَّا كَلَّمَ الْوَفْدُ أَبَا بَكْرٍ فِي أَنْ يُفَادُوا أَسْرَاهُمْ، أَجَابَهُمْ إلَى ذَلِكَ، وَخَطَبَ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ: أَيُّهَا النَّاسُ رُدُّوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَسْرَاهُمْ، لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ أَنْ يُغَيِّبَ أَحَدًا مِنْهُمْ، وَقَدْ جَعَلْنَا الْفِدَاءَ عَلَى كُلِّ رَأْسٍ مِنْهُمْ أَرْبَعَمِائَةٍ دِرْهَمٍ، قَالَ: فَجَمَعَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا تَحَصَّلَ مِنْ ذَلِكَ، مَعَ مَا اسْتَخْرَجَهُ زِيَادٌ مِنْ حِصْنِ النُّجَيْرِ مِنْ الْأَمْوَالِ، فَجَعَلَهُ مَغْنَمًا»، انْتَهَى.
أَثَرٌ آخَرُ يَشْهَدُ لِمَذْهَبِنَا: رَوَى الْوَاقِدِيُّ فِي كِتَابِ الرِّدَّةِ أَيْضًا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، فَذَكَرَ قِصَّةَ إسْلَامِ أَهْلِ دَبَا، وَأَزْدِ عُمَانَ، وَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَلَيْهِمْ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ مُصَدِّقًا، وَكَتَبَ مَعَهُ فَرَائِضَ الصَّدَقَاتِ، قَالَ: فَلَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَعُوا الصَّدَقَةَ، وَارْتَدُّوا، فَدَعَاهُمْ حُذَيْفَةُ إلَى التَّوْبَةِ، فَأَبَوْا، وَأَسْمَعُوهُ شَتْمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُمْ حُذَيْفَةُ: أَسْمِعُونِي فِي أَبِي وَأُمِّي، وَلَا تُسْمِعُونِي فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَبَوْا إلَّا ذَلِكَ، فَكَتَبَ حُذَيْفَةُ إلَى أَبِي بَكْرٍ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، فَاغْتَاظَ غَيْظًا شَدِيدًا، وَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ فِي نَحْوِ أَلْفَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى هَزَمَهُمْ وَدَخَلُوا مَدِينَةَ دَبَا فَتَحَصَّنُوا فِيهَا، وَحَاصَرَهُمْ الْمُسْلِمُونَ نَحْوَ شَهْرٍ، فَلَمَّا جَهَدَهُمْ الْحِصَارُ، طَلَبُوا الصُّلْحَ، فَشَرَطَ عَلَيْهِمْ حُذَيْفَةُ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ الْمَدِينَةِ عُزْلًا، مِنْ غَيْرِ سِلَاحٍ، فَفَعَلُوا، وَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ حِصْنَهُمْ، فَقَتَلَ عِكْرِمَةُ مِنْ أَشْرَافِهِمْ مِائَةَ رَجُلٍ، وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ، وَأَقَامَ عِكْرِمَةُ بِدَبَا عَامِلًا عَلَيْهَا لِأَبِي بَكْرٍ، وَقَدِمَ حُذَيْفَةُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ بِالسَّبْيِ، وَكَانُوا سَبْعَمِائَةِ نَفَرٍ، مِنْهُمْ ثَلَاثُمِائَةِ مُقَاتِلٍ، وَأَرْبَعُمِائَةٍ مِنْ الذُّرِّيَّةِ وَالنِّسَاءِ، فِيهِمْ أَبُو الْمُهَلَّبِ أَبُو صُفْرَةَ غُلَامٌ لَمْ يَبْلُغْ الْحُلُمَ، فَسَجَنَهُمْ أَبُو بَكْرٍ فِي دَارِ رَمْلَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، وَاسْتَشَارَ فِيهِمْ، فَكَانَ رَأْيُ الْمُهَاجِرِينَ قَتْلَهُمْ، أَوْ تَفْدِيَتَهُمْ بِإِغْلَاءِ الْفِدَاءِ، وَكَانَ رَأْيُ عُمَرَ أَنْ لَا قَتْلَ عَلَيْهِمْ، وَلَا فِدَاءَ، فَلَمْ يَزَالُوا مَحْبُوسِينَ حَتَّى تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ نَظَرَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا سَبْيَ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَرْسَلَهُمْ بِغَيْرِ فِدَاءٍ، وَقَالَ: هُمْ أَحْرَارٌ حَيْثُ أَدْرَكْتُمُوهُمْ، مُخْتَصَرٌ، وَقَدْ قَالَ: إنَّ عُمَرَ لَمْ يَتَحَقَّقْ رِدَّتَهُمْ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فِي الْقِصَّةِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا اسْتَشَارَ فِيهِمْ، قَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ إنَّهُمْ قَوْمٌ مُؤْمِنُونَ، وَإِنَّمَا شَحُّوا بِأَمْوَالِهِمْ، قَالَ: وَالْقَوْمُ يَقُولُونَ: وَاَللَّهِ مَا رَجَعْنَا عَنْ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا شَحَحْنَا بِالْمَالِ، فَأَبَى أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَدَعَهُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ، وَلَمْ يَزَالُوا»، الْحَدِيثُ.
(وَلَا جِزْيَةَ عَلَى امْرَأَةٍ وَلَا صَبِيٍّ) لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْلِ أَوْ عَنْ الْقِتَالِ، وَهُمَا لَا يُقْتَلَانِ وَلَا يُقَاتِلَانِ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ.
قَالَ: (وَلَا زَمِنٍ وَلَا أَعْمَى) وَكَذَا الْمَفْلُوجُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ لِمَا بَيَّنَّا، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ تَجِبُ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ فِي الْجُمْلَةِ إذَا كَانَ لَهُ رَأْيٌ (وَلَا عَلَى فَقِيرٍ غَيْرِ مُعْتَمِلٍ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، لَهُ: إطْلَاقُ حَدِيثِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَنَا: أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يُوَظِّفْهَا عَلَى فَقِيرٍ غَيْرِ مُعْتَمِلٍ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلِأَنَّ خَرَاجَ الْأَرْضِ لَا يُوَظَّفُ عَلَى أَرْضٍ لَا طَاقَةَ لَهُ، فَكَذَا هَذَا الْخَرَاجُ وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُعْتَمِلِ.
الشرح:
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ مُعَاذٍ: «خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ وَحَالِمَةٍ دِينَارًا» تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي.
قَوْلُهُ: إنَّ عُثْمَانَ لَمْ يُوَظِّفْ الْجِزْيَةَ عَلَى فَقِيرٍ غَيْرِ مُعْتَمِلٍ، وَكَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ.
قُلْت: الْمُرَادُ بِعُثْمَانَ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَاَلَّذِي تَقَدَّمَ عَنْهُ أَنَّهُ وَضَعَ عَلَيْهِمْ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ، وَأَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، وَاثْنَيْ عَشَرَ، وَرَوَى ابْنُ زَنْجُوَيْهِ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ عَنْ عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ الْعَبْسِيُّ، صِلَةُ بْنُ زُفَرَ، قَالَ: أَبْصَرَ عُمَرُ شَيْخًا كَبِيرًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ يَسْأَلُ، فَقَالَ لَهُ: مَا لَك؟ قَالَ: لَيْسَ لِي مَالٌ، وَأَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنِّي، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا أَنْصَفْنَاك، أَكَلْنَا شَيْبَتَك، ثُمَّ نَأْخُذُ مِنْك الْجِزْيَةَ، ثُمَّ كَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ أَنْ لَا يَأْخُذُوا الْجِزْيَةَ مِنْ شَيْخٍ كَبِيرٍ. انْتَهَى.
(وَلَا تُوضَعُ عَلَى الْمَمْلُوكِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ) لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْقَتْلِ فِي حَقِّهِمْ وَعَنْ النُّصْرَةِ فِي حَقِّنَا، وَعَلَى اعْتِبَارِ الثَّانِي لَا تَجِبُ فَلَا تَجِبُ بِالشَّكِّ. (وَلَا يُؤَدِّي عَنْهُمْ مَوَالِيهِمْ) لِأَنَّهُمْ تَحَمَّلُوا الزِّيَادَةَ بِسَبَبِهِمْ.
(وَلَا تُوضَعُ عَلَى الرُّهْبَانِ الَّذِينَ لَا يُخَالِطُونَ النَّاسَ) كَذَا ذُكِرَ هَاهُنَا، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُ يُوضَعُ عَلَيْهِمْ إذَا كَانُوا يَقْدِرُونَ عَلَى الْعَمَلِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَجْهُ الْوَضْعِ عَلَيْهِمْ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْعَمَلِ هُوَ الَّذِي ضَيَّعَهَا فَصَارَ كَتَعْطِيلِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ، وَوَجْهُ الْوَضْعِ عَنْهُمْ أَنَّهُ لَا قَتْلَ عَلَيْهِمْ إذَا كَانُوا لَا يُخَالِطُونَ النَّاسَ وَالْجِزْيَةُ فِي حَقِّهِمْ لِإِسْقَاطِ الْقَتْلِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَمِلُ صَحِيحًا وَيُكْتَفَى بِصِحَّتِهِ فِي أَكْثَرِ السَّنَةِ.
(وَمَنْ أَسْلَمَ وَعَلَيْهِ جِزْيَةٌ سَقَطَتْ عَنْهُ) وَكَذَلِكَ إذَا مَاتَ كَافِرًا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِمَا، لَهُ: أَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْعِصْمَةِ أَوْ عَنْ السُّكْنَى، وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ الْمُعَوَّضُ فَلَا يُسْقِطُ عَنْهُ الْعِوَضُ هَذَا الْعَارِضَ كَمَا فِي الْأُجْرَةِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ.
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ» وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْكُفْرِ، وَلِهَذَا تُسَمَّى جِزْيَةً وَهِيَ وَالْجَزَاءُ وَاحِدٌ وَعُقُوبَةُ الْكُفْرِ تَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ، وَلَا تُقَامُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلِأَنَّ شَرْعَ الْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا لَا يَكُونُ إلَّا لِدَفْعِ الشَّرِّ وَقَدْ انْدَفَعَ بِالْمَوْتِ وَالْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ النُّصْرَةِ فِي حَقِّنَا وَقَدْ قَدَرَ عَلَيْهَا بِنَفْسِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَالْعِصْمَةُ تَثْبُتُ بِكَوْنِهِ آدَمِيًّا وَاَلَّذِي يَسْكُنُ مِلْكَ نَفْسِهِ، فَلَا مَعْنَى لِإِيجَابِ بَدَلِ الْعِصْمَةِ وَالسُّكْنَى.
الشرح:
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ».
قُلْت: أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي الْخَرَاجِ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الزَّكَاةِ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ قَابُوسَ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ»، انْتَهَى.
قَالَ أَبُو دَاوُد: وَسُئِلَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ هَذَا، فَقَالَ: يَعْنِي إذَا أَسْلَمَ فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ، انْتَهَى.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَقَدْ رَوَى قَابُوسُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا انْتَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي سُنَنِهِ فِي الْوَكَالَةِ، وَسَكَتَ عَنْهُ.
قُلْت: وَقَدْ وَرَدَ بِاللَّفْظِ الَّذِي فَسَّرَهُ بِهِ سُفْيَانُ، قَالَ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْأَوْسَطِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْخَطِيبُ ثَنَا عِيسَى بْنُ أَبِي حَرْبٍ الصَّفَّارُ ثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْر ثَنَا عُمَرُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَسْلَمَ فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ»، انْتَهَى.
وَأَعَلَّ ابْنُ الْقَطَّانِ حَدِيثَ السُّنَنِ فِي كِتَابِهِ بِقَابُوسَ، فَقَالَ: وَقَابُوسُ عِنْدَهُمْ ضَعِيفٌ، وَرُبَّمَا تَرَكَ بَعْضُهُمْ حَدِيثَهُ، وَكَانَ قَدْ افْتَرَى عَلَى رَجُلٍ، فَحُدَّ، فَتُرِكَ لِذَلِكَ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
(وَإِنْ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْحَوْلَانِ تَدَاخَلَتْ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَمَنْ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ خَرَاجُ رَأْسِهِ حَتَّى مَضَتْ السَّنَةُ وَجَاءَتْ سَنَةٌ أُخْرَى لَمْ يُؤْخَذْ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: يُؤْخَذُ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ (وَإِنْ مَاتَ عِنْدَ تَمَامِ السَّنَةِ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا وَذَلِكَ إنْ مَاتَ فِي بَعْضِ السَّنَةِ)، أَمَّا مَسْأَلَةُ الْمَوْتِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهَا، وَقِيلَ: خَرَاجُ الْأَرْضِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَقِيلَ: لَا تَدَاخُلَ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ، لَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّةِ أَنَّ الْخَرَاجَ وَجَبَ عِوَضًا وَالْأَعْوَاضُ إذَا اجْتَمَعَتْ وَأَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهَا تُسْتَوْفَى وَقَدْ أَمْكَنَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بَعْدَ تَوَالِي السِّنِينَ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمَ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ مِنْهُ لَوْ بَعَثَ عَلَى يَدِ نَائِبِهِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ بَلْ يُكَلَّفُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ بِنَفْسِهِ فَيُعْطِي قَائِمًا وَالْقَابِضُ مِنْهُ قَاعِدٌ، وَفِي رِوَايَةٍ: يَأْخُذُ بِتَلْبِيبِهِ وَيَهُزُّهُ هَزًّا وَيَقُولُ: أَعْطِ الْجِزْيَةَ يَا ذِمِّيُّ فَثَبَتَ أَنَّهُ عُقُوبَةٌ، وَالْعُقُوبَاتُ إذَا اجْتَمَعَتْ تَدَاخَلَتْ كَالْحُدُودِ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا مِنْ الْقَتْلِ فِي حَقِّهِمْ وَعَنْ النُّصْرَةِ فِي حَقِّنَا كَمَا ذَكَرْنَا لَكِنْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِي الْمَاضِي، لِأَنَّ الْقَتْلَ إنَّمَا يُسْتَوْفَى لِحِرَابٍ قَائِمٍ فِي الْحَالِ لَا لِحِرَابٍ مَاضٍ، وَكَذَا النُّصْرَةُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّ الْمَاضِيَ وَقَعَتْ الْغَنِيمَةُ عَنْهُ، ثُمَّ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْجِزْيَةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَجَاءَتْ سَنَةٌ أُخْرَى حَمَلَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ عَلَى الْمُضِيِّ مَجَازًا وَقَالَ: الْوُجُوبُ بِآخِرِ السَّنَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْمُضِيِّ لِيَتَحَقَّقَ الِاجْتِمَاعُ فَتَدَاخَلَ، وَعِنْدَ الْبَعْضِ هُوَ مُجْرًى عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَالْوُجُوبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَوَّلِ الْحَوْلِ فَيَتَحَقَّقُ الِاجْتِمَاعُ بِمُجَرَّدِ الْمَجِيءِ.
وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَنَا فِي ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي آخِرِهِ اعْتِبَارًا بِالزَّكَاةِ وَلَنَا أَنَّ مَا وَجَبَ بَدَلًا عَنْهُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فَتَعَذَّرَ إيجَابُهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْحَوْلِ فَأَوْجَبْنَاهُ فِي أَوَّلِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.